السببية الاستنباطية ما بين علم الكلام والرياضيات
- في ليلة ٢ مايو ٢٠٢١ دار حوار بين محمد رضا و عبد الرحمن على منصة كلابهاوس، أراد فيه رضا استخدام ما يسميه مبدأ السببية لإثبات وجود الإله.
- دُعيت للحوار من قبل عبد الرحمن حين تم التطرق لأمور لها علاقة بالرياضيات وبالأخص مصطلح المالانهاية.
- ما قلته عن مصطلح المالانهاية في الرياضيات كان تبسيطا كبيرا وتوقفت سريعا عن التطرق للتفاصيل.
- حدثنا محمد رضا عن السببية في علم الكلام والذي يراه أيضا كمبدأ أساسي من مبادئ العلوم الحديثة.
- انتقد عبد الرحمن علم الكلام لارتكانه على منطق يراه مليء بالمغالطات المنطقية. في المقابل أشار رضا إلى أن علم الكلام متكون من شقين أولهما مهتم بإثبات وجود خالق للكون والثاني مهتم بالكون نفسه.
- قرأ عبد الرحمن جزءا من نص منسوب لأحد أعلام علم الكلام. عقب عبد الرحمن على ما قرأ بأنه مازال ينتقد المغالطة الحلقية فيما قرأ، إذ انتهى ما قرأه بافتراض وجود الخالق، وهو ما كان يجب إثباته.
- حين حضرت كان الخلاف قد قارب على التمحور حول جواز استخدام السببية الاستنباطية (deductive) أم السببية الاستقرائية (inductive)، وهي مصطلحات فهمت ما ترمز اليه بشكل أوضح من خلال الحوار.
- قلت في خلال الحوار أن المنطق الذي يستخدمه رضا هو نوع من أنواع المنطق اللاشكلي (informal logic) والذي ابتعدت عنه الرياضيات في طور انفصالها عن الفلسفة.
- طورت الرياضيات منطقا يمكن أن نصفه بالأضيق حاولت عن طريقه التخلص من كل المغالطات المنطقية الموجودة في المنطق اللاشكلي والذي يستخدمه البشر في لغتهم اليومية.
- وفي القرن العشرين تبلور داخل الرياضيات ما يسمى بالمنطق الرياضي وهو منطق شكلي (formal logic). ذكرت في معرض كلامي أن هذا المنطق هو بالبساطة والدقة التي تمكننا من الترميز له على الحاسب الآلي، وما لم أذكره هو أنه بناءا على هذا المنطق صار بإمكان الحاسب الآلي اختبار البراهين الرياضية وحسم صحتها أو خطئها بشكل مطلق.
- يحتوي المنطق الرياضي على عدة مناطق (جمع منطق) غير متكافئة وقد ذكرت المنطق الكلاسيكي (classical logic) والمنطق البناء (constructive logic) كمثالين لمنطقين رياضيين غير متكافئين.
- ذكرت أن المنطق الكلاسيكي باستخدامه لمبدأ الثالث المرفوع يقبل بإثبات الوجود الرياضي (mathematical existence) بشكل غير مباشر مما يضعف مفهوم الوجود الرياضي ويحد من تطبيقات الرياضيات التي تبنى على هذا المنطق، في حين ان المنطق البناء لا يقبل إثبات الوجود الرياضي إلا بشكل مباشر وهو ما يوسع دائرة تطبيقات هذا النوع الأخير من الرياضيات.
- المنطق الذي يتحدث به رضا قادر فيما يبدو على التعبير عن وجود الأشياء المادية وعن العدم المادي وهي أشياء لا صلة لها بمعنى الوجود في الرياضيات ولا تعرف الرياضيات عنها شيئا إلا من خلال تمثيل رياضي محدد. كما أنه لا يجب الخلط بين السببية الاستنباطية التي يتكلم عنها رضا و السببية الاستنباطية التي تتحدث عنها الرياضيات والتي تعتمد عليها العلوم الطبيعية في تمثيلها الرياضي للظواهر، وهو ما سنتطرق إليه أدناه.
- خلال الحوار فهمت أنه ما يشار إليه بالمنطق الاستقرائي هو المنطق المبني على استقراء أو ملاحظة الكون والظواهر الطبيعية بالتجربة والمشاهدة والقياس.
- في حين أنه يمكن الخلاف على الحتمية المنطقية لما سمي خلال الحوار بالسببية بنوعيهما، وهو ما أشار اليه عبد الرحمن، إلا أنه يجب التأكيد على أن السببية الاستنباطية بمفهومها الرياضي الضيق والدقيق هي بالفعل حتمية.
- انطلاقا من هذا الفهم تحدثت عن أن العلوم الطبيعة الحديثة وخصوصا علم الفيزياء يُبنى على التزاوج ما بين مكونين: الأول هو المنطق الاستقرائي (استقراء الكون) و الثاني هو المنطق الاستنباطي بمفهومه الرياضي (وليس بمفهومه اللاشكلي في اللغات البشرية)، إذ يقوم على سبيل المثال علماء الفيزياء باستقراء الطبيعة عن طريق التجربة والقياس ثم يحاولون بناء نموذجا رياضيا يتم اسقاطه على الكون الذي ندركه بالحواس البشرية وأجهزة القياس الفيزيائية (مع احتمالية أننا قد نكون سجناء في محاكاة حاسوبية، أو الاحتمالية الأكبر أننا لا ندرك سوى جزء من الكون الذي نسميه بالكون المادي).
- هذا النموذج الرياضي يجب أن تتوفر فيه ثلاثة شروط:
- الخلو من التناقضات المنطقية بمفهومها الرياضي.
- التوافق بدقة عالية مع ما تم قياسه بالفعل في نطاق ما يهدف النموذج الى تمثيله رياضيا.
- القدرة على التنبؤ بدقة عالية بما لم نتمكن من قياسه بعد، كاختبار مستقبلي لدقة التمثيل الرياضي.
- هذه الشروط الثلاثة تتوفر مثلا في ميكانيكا نيوتن والنسبية الخاصة والنسبية العامة، ففيهم يتحقق الشرط الأول بشكل كامل والثاني والثالث بشكل متنامي على حسب الترتيب التاريخي لصياغتهم.
- وبهذا فإن قوة العلوم الطبيعية تكمن في استخدام النماذج الرياضية ليس فقط لتمثيل الظواهر الطبيعة انطلاقا من قوانين رياضية قليلة وإنما في القدرة المذهلة على التنبؤ. وقد ذكر دكتور معتز إمام أستاذ الفيزياء النظرية في حديث سابق على منصة كلابهاوس أمثلة من علم الفلك على ما أسماه “جبروت الرياضيات والفيزياء في قدرتهما على التنبؤ”.
- هناك أمثلة لا تحصى على قدرة التمثيل الرياضي على التنبؤ بظواهر جديدة، منها ما تمكنا من قياسه فيما بعد، ومنها ما قد يظل خارج قدرتنا على المشاهدة أو القياس المباشر كالانفجار العظيم. رغم ذلك لا يدعي عالم واحد أعرفه أن النماذج الرياضية هي حقائق مطلقة، إنما هي نماذج تقريبية لها قدرة تنبؤية كبيرة. هذا القدرة التنبؤية هو ما مكن البشرية من إحداث القفزة التكنولوجية المذهلة التي تملأ كل مناحي حياتنا الحديثة.
- المعيار الرابع (وإن لم يكن شرطا) في تقييم هذه النظريات هو "الأناقة الرياضية"، ما قد يعني قلة المسلمات أو بساطة التمثل الرياضي، بغض النظر بالطبع عن مدى التعقيد الرياضي الظاهري لغير المتخصصين.
- ما لم أذكره في هذا السياق وإنما ذكرته في سياق آخر هو أن نظرية الأوتار —كتعميم رياضي في غاية الأناقة للنسبية العامة— قادرة على تمثيل باقي قوى الطبيعة الأربعة المعروفة حتى يومنا هذا بجانب قوة الجاذبية، إلا أنها حتى الآن تفتقر بشكل شبه كامل لقدرة التنبؤ بما يمكن قياسه معمليا بالأدوات المتاحة حاليا. في المقابل استطاعت نظرية النموذج المعياري على وصف جميع تجارب مسارعات المكونات الذرية بدقة فائقة، ولكن معادلاتها قد لا تحقق في نظر البعض الأناقة الرياضية المرجوة، بل إن البعض ينعتها بالقبح. الجدير بالذكر أنه في يوم ٧ ابريل ٢٠٢١ أُعلن عن نتائج تجربة جديدة تناقض تنبؤات نظرية النموذج المعياري.
- وقد أكدت خلال الحوار أن استخدام الرياضيات في العلوم الطبيعية يقتصر على التمثيل الرياضي وليس “لشرح” الظواهر الطبيعية بالمعنى الفلسفي العام، وأنه إذا كان هناك حديث عن السببية الاستنباطية في سياق العلوم الطبيعية فيجب حصرها على السببية الاستنباطية بمفهومها الرياضي المحدود وليس بأي مفهوم فلسفي آخر، وبالتأكيد ليس بمفهوم علم الكلام.
- اتفقنا على ان الرياضيات ليست ضمن العلوم الطبيعية، بل انها علم شكلي (formal science) ينطلق من المنطق بمفهومه الرياضي الضيق ويبنى عوالم رياضية قد يكون لها إسقاط على الكون المدرك، وفي أغلب الأحيان لا يكون. ورغم كونها ليست ضمن العلوم الطبيعية إلا أنها أقوى أدوات العلوم الطبيعية لتمثيل الظواهر المدركة وأقوى آليات التنبؤ. وما أكدت عليه بشكل متكرر هو أنه لا يجوز الخلط بين المنطق الرياضي الشكلي والمنطق المستخدم في الفلسفة القديمة أو الحديثة وبكل تأكيد لا يجوز مقارنته بالمنطق المستخدم في علم الكلام (هذا ليس تقليلا من قيمة أي منطق، إنما محاولة لضبط المصطلحات).
- ذكر رضا حوارا دار بينه وبين الأستاذين ستيفان هوكينجز ورجر پنروز عن بداية الكون وما قبل الانفجار العظيم وذكر أنهما قالا ان السؤال عن ما قبل الانفجار العظيم هو سؤال لا معنى له بالنسبة لهما، إذ أن الوقت خلق مع الانفجار العظيم، وهو ما اعتبره رضا افتئاتا على حرية التفكير العلمي. وقد حاولت أن أوضح انهما انطلقا من المنظومة “المتواضعة” للعلوم الطبيعية التى تستخدم التزاوج ما بين الاستقراء التجريبي للكون المدرك والاستنباط الرياضي كما ذكرت أعلاه، وأن المقصود من إجابتهما هو أن الزمن له تمثيل رياضي كبعد من أبعاد الزمكان وأن في النموذج الرياضي المستخدم لتمثيل (وليس لشرح) الكون المدرك الوقت لا يعدوا كونه بعدا من الأبعاد التي نشأت في نقطة التفرد التي يتنبأ بها التمثيل الرياضي وأنهما ليس لديهما تصور آخر عن ماهية الوقت وغير قادرين على فهم سؤاله بالشكل الذي يمكنهما من صياغة إجابة علمية أخرى (بمفهوم العلوم الطبيعية).
- ختمت نقاشي بتكرار سؤالي عن تطبيقات منطق علم الكلام في العلوم الطبيعية، علما بأن الأخيرة قد حققت أو بالأدق مثلت مبدأ السببية بمفهومها العام عن طريق السببية الرياضية كجزء أصيل من التمثيل الرياضي في نظريات العلوم الطبيعية المختلفة، وأكدت أن هذا السؤال ليس سؤالا استعلائيا أو تعجيزيا.
- ختاما أود أن أعبر عن سعادتي بآداب الحوار التي اتبعها كل المتحاورون وبمثابرة محمد رضا وشجاعته في شرح والدفاع عن منطقه رغم أنه كان وحيدا.